السودان على حافة الڼار.. تفاصيل المشهد السوداني الخارقة للمألوف!

في هذا البلد الذي يعاني من نخباته الحاكمة منذ استقلاله قبل عقود، جيشان رسميان وعشرات الفصائل القبلية والحدودية المسلحة، وصراعات على الموارد والنفوذ وأمجاد العشيرة.
وعندما وقع الخلاف أصبحت المدن السودانية ساحات قتال، تتهاوى فيها القذائف على رؤوس وبيوت المدنيين.
لا خطوط حمراء يتوقف عندها الخصوم.
لا يكترثون بمعاناة المدنيين الذين أصبح ثلثهم تقريبًا في حاجة إلى إغاثات إنسانية عاجلة بعد أيام من بدء القتال.
ولا يستمعون لنداءات المنظمات الإنسانية أو بيانات المنظمات الدولية والحلفاء، القريبين منهم والبعيدين.
إنها حرب وجودية، مَن ينتصر فيها يحكم السودان، ومَن يخسر قد يفقد حياته في ميادين المoت، أو يخضع لمحاكمة بأكبر الاټهامات التي يبرع الساسة في تدبيجها للخصوم.
صور الأقمار الاصطناعية أظهرت الدمار في مطارَي الخرطوم ومروي. وتابع الملايين على شاشات الأخبار ألسنة اللهيب والدخان وهي تتهادى في سماء الخرطوم الصافية، في بداية صيف لا أحد يعرف نهايته.
وسقط عشرات القټلى من المدنيين في الأيام الأولى للصراع، فيما بقيت الخسائر في الأرواح العسكرية غير معروفة.
منذ انقلاب أكتوبر/تشرين الأول عام 2021، الذي أطاح باتفاق المرحلة الانتقالية، عاش السودان هذه الحالة من عدم الاستقرار والاضطرابات والاحتجاجات.
وعندما توصلت القوى المختلفة إلى اتفاق إطاري جديد يحكم المرحلة الانتقالية، أدت نقاط الخلاف الرئيسية بين الجيش، بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع، بزعامة حميدتي، إلى وقوع المحظور واندلاع القتال في شوارع الخرطوم الآمنة.
“كلمة السر في الحريق السوداني الكبير هي قوات الدعم السريع، الۏحش الذي ابتكره وأطعمه البشير، فالتهم البشير ونظامه في ساعة الحقيقة”.
من هي “الجنجويد” ؟
تشكلت ميليشيا "الجنجويد" من رعاة إبل من عشيرتي المحاميد والماهرية، من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في تشاد.
في عام 2003 ظهرت في صورة ميليشيات لتأمين القوافل التجارية خلال مسيرتها الطويلة، ثم تم إلحاقها بوحدة استخبارات حرس الحدود بالقوات المسلحة.
وخلال الحړب الضارية في دارفور 2003-2005، كان قائد الجنجويد الأكثر شهرة والأسوأ سمعة هو موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد، الذي التقط ابن عمه الشاب حميدتي، 28 عامًا وقتها، وجعله ساعده الأيمن في قيادة هذه الميليشيات التي واجهت لاحقًا اټهامات بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، والتطهير العرقي.
هكذا بدأ حميدتي صعوده الدرامي بعد نجاحه في توسيع الميليشيا التي يقودها من الماهرية وضم قبائل أخرى.
وعندما نشب الخلاف بين البشير وموسى هلال، اختار الرئيس هذا الشاب ليصبح قائد الدعم السريع، في شهر عسل انتهى مع الرئيس عام 2007.
تمرد حميدتي على الدولة عندما تم تهميشه خلال مفاوضات السلام في دارفور، وڠضب عندما انقطعت رواتب جنوده لأكثر من ستة أشهر.
أما نقطة الانفجار فكانت تعيين البشير لـ"ميني مناوي" المنتسب لقبيلة الزغاوة مستشارًا له.
بدأ حميدتي انشقاقه عن الحكومة في أغسطس/آب 2007، وانصاعت الحكومة لتمرده، الذي أنهاه وهو يحمل لأول مرّة لقبًا عسكريًا "عميد"، ويتحوّل من تاجر إبل وأمير حرب إلى قائد عسكري.
ثم كانت "قوات الدعم السريع" هي التطور الطبيعي لميليشيات القبائل والجنجويد سابقًا، وتم الإعلان عنها رسميًا صيف 2013 بعد إعادة هيكلتها لتصبح تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني.
من هو “حميدتي”؟
محمد حمدان دقلو معروف منذ صغره بلقب "حميدتي"، ومولود عام 1975 في قبيلة الرزيقات ذات الأصول العربية التي تقطن إقليم دارفور غربي السودان.
ترك الدراسة في سن الـ15 وانخرط في تجارة الإبل والقماش بين السودان وليبيا ومصر عبر الصحراء، ثم في حماية القوافل التجارية من قطاع الطرق.
جنى حميدتي ثروة كبيرة مكّنته من تشكيل ميليشيا قبلية تنافس ميليشيات قبلية أخرى، وعند اكتشاف الذهب في جبل عامر سيطرت ميليشياته على مناجمه.
بدأت حياة حميدتي السياسية والعسكرية مع ميليشيات الجنجويد التي ارتكبت أسوأ الفظائع في إقليم دارفور بغرب البلاد، وهي الميليشيات التي ترتبط باسم موسى.
بعد استقرار الأوضاع في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان اتجهت قوات الدعم إلى مجال مكافحة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية صوب قارة أوروبا، الأمر الذي قدم اسم حميدتي للعالم، وأكسبه رضا بعض الدول الأوروبية والأسرة الدولية.
ولدى اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد البشير في أبريل 2019، استدعى الرئيس المعزول قوات الدعم السريع للسيطرة على الاحتجاجات، وحدثت المفاجأة: رفض حميدتي مواجهة المظاهرات، وترك صديقه الرئيس لمصيره.
بعد أيام كان حميدتي يشارك في الحكم بالمرحلة الانتقالية، وصديقه الرئيس في السچن. وشاركت قواته في إحدى أبشع المذابح في تاريخ السودان الحديث، وهي مجزرة القيادة العامة.
يومها قامت "الدعم السريع" بفضّ اعتصام القيادة العامّة بشكلٍ عڼيف ما تسبّب في مقټل أكثر من 100 محتج سلمي وإصابة المئات، ونسبت إليها تقارير صحفية ارتكاب جرائم بشعة بحق النساء والرجال، ونهب منازل المدنيين في العاصمة ومدن أخرى في نفسِ يوم المجزرة.
بعدها وقَّع الفريق دقلو مع البرهان الاتفاق الإطاري مع أحزاب عدة من قوى الحرية والتغيير وأصبح من أقوى الداعمين لتطوير هذا الاتفاق إلى نهائي لتشكيل حكومة مدنية وانسحاب العسكر من الحكم.
الصراع بين “حميدتي” و"البرهان"
تطورت قوات الدعم السريع إلى ما هو أكبر بكثير من مجرد رعاة مسلحين؛ إذ بدأت الحكومة الاستعانة بالقوة التي يبلغ قوامها 70 ألف مقاتل، حسب بعض التقديرات، لوأد أي تمرد في السودان وكذلك للقتال لجلب المال في حرب اليمن التي كان يشنها تحالف خليجي بقيادة السعودية.
أصبح للجنرال حميدتي مصالح تجارية في تعدين الذهب والمقاولات وحتى شركة لتأجير سيارات الليموزين.
أصبح سياسيًا نشطًا يتنقل بين منطقة القرن الإفريقي والشرق الأوسط للقاء القادة العسكريين والسياسيين.
امتلك علاقات وثيقة مع موسكو، وتحالف مع شركتها العسكرية الخاصة فاغنر، التي يحرس مرتزقتها مناجم الذهب في السودان.
ويرى محللون أن قوات الدعم السريع ربما تضم نحو 100 ألف عضو. فخلال العامين الماضيين، أطلق حميدتي حملة تجنيد سريعة ساهمت في تعزيز صفوف قوات الدعم السريع. ويقول خبراء إن معظم أفرادها من غرب السودان، ومناطق أهملتها الحكومة لفترة طويلة، من ضمنها مناطق في الشرق بالقرب من البحر الأحمر وعلى طول الحدود مع جنوب السودان.
وأفادت تقارير بأنه بنى أسطولًا من المركبات المدرعة وحصل على طائرات مسيرة، وفقًا لتقديرات محمد عثمان، الباحث المسؤول عن السودان في منظمة هيومن رايتس ووتش.
وأصبح لدى حميدتي مستشارون سياسيون يخططون له كل شيء، ويرسمون له خطواته في التحرك في دهاليز السياسة السودانية بخطوات محسوبة
كما استعان حميدتي بخدمات وكالة العلاقات العامة الفرنسية "آن تستوز"، لمحاولة تسهيل المقابلات مع وسائل الإعلام الفرنسية وتلميع صورته دوليًا.
ويبدو أن طموح حميدتي هو تطوير الميليشيا إلى جيش شبه رسمي، نجح في جذب الآلاف إليه، حتى إن القوات المسلحة القومية بالإضافة إلى الأجهزة العسكرية الأخرى
مثل الشرطة والمخابرات أصبحت تواجه حالات تسرب كثيفة من قِبل الذين أصبحوا يتجهون مباشرة للانضمام إلى قوات الدعم السريع، وذلك لسببين:
أولهما العائد المادي المجزي للغاية، والذي يفوق أضعاف ما يتلقونه في القوات المسلحة أو الشرطة.
وثانيهما وهو الأهم الوعد بإرسالهم إلى اليمن للقتال ضد الحوثيين، حيث يتلقون هناك رواتبهم بالريال السعودي بدلًا من الجنيه السوداني.
ثم إن استثمارات حميدتي الاقتصادية أصبحت موجودة في كل مكان في السودان وفي مختلف القطاعات مثل القطاع الزراعي والمصرفي والصناعي والحيواني، ممثلة في شركة "الجنيد" التي أصبحت الاسم الأبرز في عالم الاستثمار المحلي